ثورة المصريين بلغت العاشرة من العمر
ومازلنا نتذكر

قبل عشر سنوات ذهبت إلى ميدان التحرير وشاركت في ثورة غيرت وجه التاريخ المعاصر في بلدي. كنت جزءً من حدث تاريخي. كنت شاهدة على قدر كبير من الشجاعة وقدر كبير من الوحشية. اقتحمت الباستيل. سحقت القمع بقدمي. صاحبت الخوف وضحكت في وجه الموت. اليوم قصصت شعري. يعجبني مظهري الجديد. أنظر إلى نفسي وأفكر في ما تركته الثورة من علامات في أجسادنا جميعاً بأشكال مختلفة. في الواقع أنا محظوظة، فجراحي كلها نفسية. بعضنا فقد عينيه أو أطرافه. قصّة شعري الجديدة علامة ينتهي بها عقد من الزمان، أغيّر بها جلدي، أتحول، حان الوقت كي أصبح شيئاً أخر. 

لحسن حظي، لدي المساحة الكافية لكي أصبح شيئاً أخر. بعضنا لا يستطيع الحركة. بعضنا مازال عالقاً في متاهات تشريعية، بين الحدود، في السجون، وفي غياهب الأزمات الاقتصادية. عندي رفاهية التفكير والمراجعة، أو أن التفكير والمراجعة قد وجبا عليّ لأني أعيش في رفاهية لا تتاح لغيري. لزم عليّ التفكر فيما لدي من رفاهية وامتيازات. افعل/ي مثلي إن كانت لديكِ أو لديكَ ما لديّ من رفاهية وامتياز. هذا واجبنا أمام أنفسنا وتجاه رفقائنا. طريقنا معاً كان طويلاً. نحن في حاجة إلى الاعتراف بألم جيلٍ بأكمله وبطول كفاحه. في عقد واحد، عشنا عشرات الأعمار.تجرأنا وحلمنا، فشلنا مرّات ومرّات، قررت أن أفعل ما تحدثت عنه إيمان مرسال في كتابها عن عنايات الزيات وأقص شعري. أرى التجاعيد بوضوح. أرى علامات ما حدث لي وأنا في الخامسة والعشرين على وجهي. كنّا صغاراً. أتذكر ما شهدته جيدا، أتذكره وسوف أعيش لأذكره وأذكّر به. صرت أرشيفاً حياً يرزق ويتنفس. حدث ما حدث وكنت هناك، شاهداً ودليلاً في الآن ذاته. قصتي قصة ثورة ثمّة من يرغب في محي آثارها، فلم يبق لنا سوى التذكر. وما عسانا أن نفعل غير ذلك؟

 جرافيتي عن الثورة المصرية، حي برنزلوربرج – برلين، تصوير: السالم

لماذا نتذكر؟

حين اقترب موعد الذكرى العاشرة للثورة المصرية، وجدت نفسي أمسك زمام الذكرى بتوجس ووسوسة، أجبر نفسي على نقاش وأدفع الآخرين إليه دفعاً، رغم علمي تمام العلم أنه لا طاقة لي به وأن العواقب قد تكون وخيمة. أتساءل لماذا نتذكر؟ لماذا نحتفي بذكرى ثورة فشلت؟ ما الذي يمكن الاحتفاء به في خضم كل هذه الهزائم، بين كل هذا الخوف والاغتراب؟ لماذا نستعيد المذاق المرّ ونعيد فتح الجراح الغائرة؟ لأن هذا تحديداً هو كل ما في الأمر: الجراح لم تغر ونزيفها لم يتوقف. هذه هي حقيقتنا المرّة. نحن بقايا ثورة فاشلة، حُكم على أجسادنا أن تعيش بذكراها. تثقل علينا الذكرى، تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، تطاردنا، تمس دواخلنا، تتملكنا وتسيطر هواجسها علينا. الذكرى تعيش معنا وتشكل مساراتنا أينما كنّا وذهبنا. وَصَمتنا الثورة، غيّرت مصائرنا، أهدافنا، نظرتنا للعالم وللوجود من حولنا. 

 كلّ منا كانت لها وله ثورته وثورتها الشخصية في السنوات العشر الماضية، تحولات كسرت حدودنا المعتادة. الثورة بقيت في أجسادنا، في علامات التعذيب، في مواضع العيون والأطراف المفقودة، في الألم، في التروما وما بعدها، في القلق الذي لم يهدأ حتى هذه اللحظة، في الأسى الذي يرفض مغادرتنا، فشل الثورة تجسد فينا. 

لماذا نتذكر في برلين؟

لأننا في حاجة لتذكر من نحن ومن أين جئنا، ليس جغرافيا فحسب ولكن شعورياً أيضاً. الشتات يزيد من احاسيس التيه والاغتراب عن ما يحيط بنا. تجارب الهجرة تعزل المرء، تظلل وجوده بظلال سوداوية، تعيقه عن التأقلم مع العالم المباشر من حوله، تعيقه عن الارتباط ببيته الجديد الذي ربما صار بيته الدائم. يبقى وجود المرء وجود عابر، كل شيء معلق ومؤقت.

في عام ٢٠١١ توقف الزمن. ثم زادت سرعته فجأة دافعاً أمامه عشر سنوات من الحراك وواحدة من موجات الهجرة البشرية التي لم يعرف مثلها التاريخ المعاصر إلا مرات قليلة. الثورات الفاشلة في المنطقة جعلت من برلين وطنا للنزوح والتلاقي، ألقت بنا الأقدار فيه لنكون في مواجهة حقائق جديدة.

 في عام ٢٠٢١ نحتاج من الزمن أن يتوقف مرة أخرى. نحتاج إلى برهة قصيرة نأخذ فيها استراحة للتساؤل، كيف بحق الجحيم حدث كل ما حدث في هذه السنوات العشر؟ نحتاج إلى برهة نأخذ فيها أنفاسنا. 

من الذي يستطيع التذكر؟

التذكر نفسه امتياز معظمنا لا يقدر عليه. لابد أن تتسع صدورنا رحابة لكل هؤلاء الذين لا يستطيعون أو لا يريدون التذكر. لابد أن نتذكر بدلاً عنهم/ن إقراراً منّا بألمهم/ن وظروف واقعهم/ن. أقول لكل هؤلاء الذين يفضلون البقاء بعيداً وغلق كل الأبواب في وجه الذكرى، أقول لهم/ن أن موقفهم/ن مفهوم، بل ضروري في أحيان كثيرة. التذكر كفروض الكفاية، لا تجب علينا جميعاً إنما فقط على بعضنا. التذكر وجب على هؤلاء الذين يقدرون عليه أويحتاجون إليه كي ينجو. نحن الناجون، عبرنا بلادً وبحارً ثم رسينا على شطئان الذكرى. نحن مازلنا هنا، نتذكر. فهل ستتذكر/ين معنا؟

*****

النص الإنجليزي الأصلي نشر على موقع dis:orient يوم ٢٥ يناير ٢٠٢١

الكاتبة هي إحدى العضوات المُؤسسات لرابطة “نوّارة.” 

نوّارة هي رابطة – مقرها برلين – لفنانات\ين وناشطات\ين وباحثات\ين المهتمات\ين بمنطقة شمال أفريقيا وغرب آسيا. تهتم نوّارة في ممارساتها وأنشطتها على الأخص بالقضايا النسوية والكويرية.